الجنائز في المغرب.. مناسبات لـ"الأفراح" و"التباهي" بالأكل واللباس

الجنائز في المغرب.. مناسبات لـ"الأفراح" و"التباهي" بالأكل واللباس
رغم أن الموت في العادة هو رديف لمشاعر الحزن والألم التي تنبعث في النفس وتهزها من الداخل هزا بعد فقدان عزيز أو قريب، فإن الطقوس التي تمر فيها الجنائز في عدد من مناطق المغرب تميل إلى أن تكون "أفراحا" لا أحزانا وأعراسا لا مآتم، وذلك من فرط بعض الممارسات التي تشي بالأفراح أكثر منها إلى الأتراح.
وتحولت العديد من مناسبات العزاء والمآتم إلى أشبه ما يكون بحفلات الزفاف خاصة في ما يتعلق بالحرص على توفير وجبات الأكل بمختلف أصنافها للمعزين و"المدعوين" من خلال تنظيم حفلات للعزاء من لدن شركات مختصة، أو في ما يتعلق بحضور النساء بكامل زينتهن إلى مناسبات العزاء لمواساة عائلة المتوفى.
"لوقار" والمديح
وتبدأ طقوس "الفرح" والزينة في الجنائز في بعض المناطق بالمغرب من المقبرة يوم وفاة الفقيد، حيث تحمل عدد من النساء صحونا فيها مادة الحناء ومواد الزينة الأخرى، فتقوم نساء جيران الميت وأقاربه اللائي ينوين إقامة الحداد على الفقيد، ويسمونه ""الوْقار"، بالامتناع عن التكحل والتزين بينما النساء المتبقيات ـ اللواتي لا ينوين "الوقار" ـ فإن لهن الحرية في الزينة بالمقبرة.
وتسرد السيدة خديجة، في عقدها الخامس، بعض العادات التي تشهدها الجنائز في منطقتها التي تنتمي إليها بضواحي مكناس، حيث يحرص أهل الميت على أن تكون وجبة الغداء التي تُقدَّم للمعزين مكونة من مرق بلحم الغنم مع الفجل المملح والزيتون الأسود، فيما يأتي الجيران بطعام الكسكس لتتلقفه أيادي المعزين في أجواء تكاد تشبه حفلات الأعراس سوى أنه في مناسبات العزاء لا يوجد غناء ولا رقص.
وتلتقط الحاجة ثريا خيط الحديث من خديجة لتقول، في تصريح لهسبريس، إنه حتى الغناء ـ بشكل من الأشكال ـ صار في الآونة الأخيرة عنصرا مؤثثا رئيسا لحفلات العزاء عند بعض العائلات خاصة الموسرة منها، موضحة بأن عددا من الأسر تقوم باستدعاء فرق ومجموعات المديح للإنشاد خاصة في الليلة الثالثة التي تلي وفاة الهالك، وتكون مواضيع المديح عبارة عن الصلاة على الرسول الكريم أو مواعظ دينية مختلفة.
وزادت المتحدثة بأنه في عادة نساء العائلات الرباطية والسلاوية والفاسية الأصلية أنهن يحرصن على حضور الليلة الاولى أو الثالثة بعد وفاة الشخص الهالك بزينتهن الكاملة وأزيائهن التي قد يحضرن بها أيضا إلى مناسبات الزفاف، لكنهن يفضلن ارتداء ما هو أبيض، خاصة كل ما هو "تكشيطات" مُطرزة بـ"الراندا"، مشيرة إلى أنه لولا أجواء الحزن أو البكاء الذي قد يُسمع من داخل بيت المتوفى لظن المارُّون و العابرون أن المناسبة حفل عرس أو عقيقة وليس مناسبة حزينة تتعلق بوفاة.
أكل وأناقة
وأفادت أم ريم، في عقدها الثالث، في تصريحها لهسبريس بأن ما رأته عيناها في عدد من مناسبات العزاء جعلها تستغرب من التحولات التي حدثت في المجتمع المغربي الذي كان في سنوات خلت مثالا للتضامن على مستوى مشاعر الحزن والألم، إذ كان الجيران وأهل الحي يتآزرون وتبدو عليهم أحاسيس الحزن لفراق المُتوفى.
لكن حاليا، تردف أم ريم، انقلب الوضع رأسا على عقب حيث لم يعد للحزن الحقيقي مكان في القلوب، وتحولت البساطة في تنظيم مناسبات الجنائز بعفويتها إلى تكلف وتصنع وسباق محموم نحو التباهي والتظاهر بما تمتلك كل أسرة من قدرة على شراء مالذ وطاب من الأكلات وارتداء ما استجد في عالم الفساتين والجلابيب الأنيقة خاصة عند النساء، كما أن الرجال أضحوا يسيرون في ركب نسائهم" تقول أم ريم.
وتابعت المتحدثة بأنها حضرت غير ما مرة لمناسبة عزاء تم تقديم صحون الدجاج واللحوم واللوز والبيض المسلوق في وجبة العشاء للمدعوين والمعزين، دون نسيان حلويات "كرواسون"، مشيرة إلى أن النساء الحاضرات بكامل زينتيهن يوم الدفن يأتين بألبسة أخرى في اليوم الموالي، أما اليوم الثالث فتحدث منافسة شديدة في أزياء النساء مع حرصهن على وضع ماكياج خفيف أو تصفيف شعورهن "بروشينك" حتى يظهرن بأناقتهن كاملة أمام الأخريات.
ضوابط الدين
ويرى الباحث الإسلامي عبد الله بوغوتة أن الطقوس والمراسيم التي ترافق عملية دفن الميت، وبعد ذلك أيضا، نابعة من ثقافة المجتمع التي تستمد أصولها وضوابطها من أصول فكرية معينة تطورت عبر الزمان منذ القدم وحتى يومنا هذا، وكذلك الأمر بالنسبة لعدد من المظاهر الاجتماعية والحياتية.
ولمعرفة الصواب والخطأ منها، يضيف بوغوتة، لابد من الرجوع إلى الهدي النبوي لتصحيح الخطأ وترسيخ الصواب، ولقد جاء الإسلام ليضبط هذه الطقوس وفق ضوابط ربانية لتحقق المقاصد المرجوة منها في الدنيا والآخرة، ومن أهمها تحقيق سعادة الإنسان في الدارين من خلال درء المفاسد وجلب المصالح قياما بمقتضيات الاستخلاف وتحقيقا للعبودية لله وحده لا شريك له".
ومن جهته انتقد معاذ زعيطي، واعظ ومرشد ديني، ما سماها البهرجة التي لا طائل منها في مناسبات العزاء في عدد من العائلات بالمغرب، مبرزا أنها أمور ليست من الدين في شيء بل إن المبالغة في استعراض الأكل والشرب واللجوء إلى خدمات شركات الحفلات يُفرغ الجنازة وما يليها من العزاء ومشاعر الجزع والأسى من محتواها، فتصير المناسبة مجرد فرصة للقاء والمواساة باللسان دون إعمال القلب.
وقال الواعظ، في تصريحات لهسبريس، إن الدين لا يقبل كل تلك المظاهر التي تعمد من خلالها الأسر إلى التباهي والتفاخر ـ عن قصد أو عن غير قصد ـ عبر إقامة مختلف مشتهيات الأكل وصنوف الشراب والسماع أيضا باستدعاء المادحين والمادحات، بينما الأولى استدعاء قارئ للقرآن ليرتل كلام الله تعالى باعتبار أن القرآن هو خير وأعظم واعظ مصداقا لقوله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ للمؤمنين".
الميل نحو الفرح
وحول أسباب تحول قطاعات عريضة من المغاربة إلى كل ماهو استعراض للأكل والأزياء حتى في مناسبات من المفروض فيها أن تكون بسيطة وعفوية مادامت تتعلق بمفارقة الدنيا وزخرفها، أكدت الباحثة الاجتماعية ابتسام العوفير في تصريحات لهسبريس بأن الأمر يتعلق أساسا بتغيرات عميقة مست منظومة القيم والسلوكيات للكثير من المغاربة في السنوات القليلة الأخيرة.
وأوضحت العوفير بأن قيم التآزر والتفاني والانصهار في بوتقة أحزان الآخرين وخدمتهم لم تعد بالكيفية التي كانت عليها من قبل في الكثير من مدن وحتى قرى وبوادي البلاد، مشيرة إلى أنه حل محل ذلك النزوع نحو "الفردانية" و"النقدانية"، بمعنى الميل كثيرا نحو الأنانية الفردية وأيضا الانغماس شبه الكلي في كل ما هو مادي بحت.
وعزت الباحثة ذاتها استعراض بعض العائلات لعضلاتها في تقديم مالذ وطاب من الأكل والملابس، وأيضا حرص المعزين والمعزيات على التعزية بكامل أناقتهم، إلى ميل فطري من لدن المغاربة إلى الفرح والسرور، ونفورهم التلقائي من كل ما قد يثير في نفوسهم الحزن والقلق والألم، وبالتالي فإنهم حتى في أحلك لحظات الحزن يتصرفون وفق دواخلهم التي تقبل السرور وترفض سواها".

0 commentaires:

Dí lo que piensas...

liniwih

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...